Pages

Thursday, June 3, 2010

سيناريو الفتنة

بقلم: فهمي هويدي

سيناريو الفتنة بلغ ذروته في الأسبوع الماضي، حين فوجئنا بتجليات للدس والتحريض على المقاومة الفلسطينية غير مسبوقة في الخطاب الإعلامي العربي.

(1)

صباح يوم 14 أبريل الحالي، كان من بين العناوين الرئيسية لاحدى صحف الصباح المصرية عنوان يقول: فتوى فلسطينية تبيح قتل الجنود المصريين. وتحت العنوان خبر نصه كما يلي: في تطاول جديد على مصر وشعبها وحدودها، وبما يعد جريمة لا يمكن السكوت عليها، أفتى الشيخ عبدالحميد الكلاب أحد قيادات حماس باباحة قتل الجنود المصريين في حالة تعرضهم للفلسطينين. 
وجاءت فتوى الكلاب في خطبة الجمعة الماضية (التي ألقاها) بمسجد عباد الرحمن بخان يونس بقطاع غزة. في اطار عملية دائمة من الشحن المعنوي تقوم بها حماس لتهيئة الغزاويين لاعادة اقتحام الحدود (مع مصر) على غرار ما جرى في شهر يناير الماضي.

النشر أحدث صداه الطبيعي في بعض وسائل الاعلام المصرية، تراوح بين تعليقات لبعض الكتاب صبت اللعنات على الشيخ الكلاب وعلى حماس التي ينتمي اليها، وبين فتاوى لم تقصر في تسفيه الرجل واتهامه بقلة العقل والدين، واذا كان ذلك قد حدث من جانب بعض أهل الرأي والعلم، فلك أن تتصور صدى الرسالة لدى المواطن العادي، وكيف يمكن أن تسمم مشاعره وتملأه نفورا وبغضا.

بعد ثلاثة أيام ـ في 4/17 ـ نشرت صحيفة أخرى على صفحتها الأولى العنوان التالي: امام مسجد خان يونس: اتهامي باباحة قتل الجنود المصريين كذب وافتراء، وفي الخبر المنشور تحت العنوان كلام على لسان الشيخ عبدالحميد الكلاب، الذي يعمل مدرسا للتربية الدينية، قال فيه انه ليس من أهل الافتاء وأنه لم يذكر في خطبته أي شيء له علاقة بالجنود المصريين في خطبة الجمعة التي زعموا أنه تعرض خلالها للموضوع. 

ولم ينطق بشيء مما نسب اليه وان كل ما قيل في هذا الصدد كذب وافتراء للنيل من العلاقة الحميمة مع مصر الشقيقة. أضاف الرجل أنه لا يستطيع أن يتجرأ على اطلاق كلام من هذا القبيل، ولا يجوز لأي مسلم أن يفتي بها أو أن يفكر في قتل أخيه المسلم. 
وقال اننا ندرك جيدا أن أعداءنا هم الاسرائيليون، أما المصريون فهم أشقاؤنا وسندنا الذي نتطلع اليه ونعتمد عليه. وفي نهاية كلامه تحدى الشيخ الكلاب وسائل الاعلام التي روجت لشائعة الفتوى أن تبرز شريطا يبرهن على صحة ادعائها، أو أن تذكر المصدر الذي اعتمدت عليه في دس هذا الكلام على لسانه، وطالبها بأن تتحرى الدقة فيما تبثه من أخبار، حتى لا تقع في مثل هذه الخطيئة المشينة، التي تقدم خدمة جليلة للعدو الصهيوني.

(2)

صباح يوم 4/15 حدث ما هو أنكى وأغرب. فقد نشرت احدى صحف الصباح تفاصيل ما اسمته «خطة حماس لاقتحام الحدود المصرية» من غزة.

وتضمنت الخطة حسب الكلام المنشور مرحلة أولى تمثلت في قصف المواقع المصرية بقذائف الهاون، بعد أن قامت حركة حماس بتوزيع قذائف هاون عيار ستين، ونشرت ميليشيات تابعة لها على الحدود، البند الثاني في الخطة المزعومة يقضي باطلاق نيران الرشاشات على الجنود المصريين، بعدما أصدرت حماس فتوى تبيح قتل هؤلاء الجنود (لاحظ أن الكلام هذه المرة منسوب الى حماس وليس الى أحد خطباء الجمعة). 

البند الثالث في الخطة يتمثل في القيام بعملية التفاف خلف التحصينات المصرية عبر الأنفاق، بالاضافة الى تفجير بعض هذه التحصينات عبر تلغيم الأنفاق، ويترافق ذلك مع تفجير الجدار الحدودي لمنع مصر من صد مجموعات من أهالي غزة تعتزم حماس الدفع بهم لاجتياز الحدود، اضاف التقرير المنشور انه في الوقت ذاته قامت حماس بتجهيز وزراعة ما يقرب من أربعة كيلومترات من الحدود مع مصر بالمتفجرات، على مسافات متفاوتة، لاحداث ثغرة في الجدار الحدودي، في المنطقة الواقعة بين نقطتي تل زعرب غربا وحتى منطقة البرازيل وحي السلام شرقا.

في نهاية التقرير اشارة الى أن تنفيذ الخطة مرهون بموافقة بعض الدول العربية (المقصود سورية) والاقليمية (ايران)، وأن هناك اتصالات تمت بين حماس والاخوان المسلمين في مصر لاطلاق حملة سياسية واعلامية وتنظيم مسيرات ومؤتمرات في البلد، لاحراج الحكومة المصرية، ومنعها من صد هجوم حماس على القوات المصرية (!)
حين طالعت التقرير الذي أبرز على الصفحة الأولى في ذلك الصباح، لم أصدق ما وقعت عليه عيناي لأول وهلة، فأعدت قراءته مرة ثانية وثالثة. 
وفي كل مرة كنت أزداد حيرة ودهشة، حتى رن جرس الهاتف الى جانبي، وكان المتحدث هو السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي بادرني بالسؤال هل صحيح ما تناقلته بعض الوكالات بخصوص كلام نشر في مصر عن خطة لحماس تستهدف قصف المواقع على الحدود ونسف الجدار وتلغيم الأنفاق؟. 

ولما رددت عليه بالايجاب، قال بانفعال: أعوذ بالله. هذا كثير يا جماعة. والصحافة الاسرائيلية على فجورها لم تجرؤ على أن تختلق علينا أكاذيب من هذا القبيل. ليس لأنهم شرفاء ولكن لأنهم يعرفون كيف ينسجون الأكاذيب، ويميزون بين المعقول وغير المعقول فيها.

في اليوم التالي تناقلت وكالات الأنباء بيانا صدر في غزة باسم السيد اسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة تجاهل التقرير، وتحدث عن العلاقة الأخوية والاستراتيجية مع مصر، وأشاد بدورها من أجل القضية الفلسطينية وفي مواجهة المخططات الاسرائيلية الهادفة الى تصفية القضية. 
وقال ان ما يعترض العلاقات على مصر يظل خلافا داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد، يمكن احتواءه، ولا يمكن أن يؤثر على عمق العلاقة أو وحدة الهدف والمصير الذي يربط بين الشعبين الشقيقين. 

وعبر هنية عن أمله في أن تستثمر مصر مكانتها لانهاء معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من خلال رفع الحصار وفتح المعابر وانهاء الاجراءات التعسفية التي فرضتها اسرائيل لاذلال الفلسطينيين وكسر ارادتهم.

(3)

بين يدي خمس مقالات نشرت في الأسبوع الماضي لكتاب بعضهم محترمون تبنت فكرتين أساسيتين، الأولى أن حماس هي المسؤولة عن حصار غزة (أحدهم قال انها حرقت القطاع). والفكرة الثانية أن الفلسطينيين ضيعوا فرص التسوية السلمية التي أتيحت لهم (أحدهم قال انه رغم كل العنف والظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني، فانه أتيحت له من الفرص والمساعدات ما لم يتح لشعوب أخرى في العالم). 
ولعلك تلاحظ معي أن الفكرتين تبرئان اسرائيل بصورة غير مباشرة. وتشيران بأصابع الاتهام الى الفلسطينيين، فهم الذين تسببوا في الحصار وهم الذين ضيعوا الفرص الذهبية التي أتيحت لهم، ولم تتح لغيرهم من شعوب الأرض!.

لا أعرف ان كان نشر هذه التعليقات بشكل متتابع على مدار الأسبوع مقصود أم لا، لكنني أعرف أن الفكرتين فاسدتان، وتسوقان لبضاعة مغشوشة. 
ذلك أن أي متابع للشأن الفلسطيني، اذا لم تكن ذاكرته قد محيت، يدرك أن الرئيس السابق ياسر عرفات حين حاصرته اسرائيل ثم قامت بتسميمه وقتله وهو في محبسه، لم يكن حمساويا ولا جهاديا، وانما كان السبب الرئيس لحصاره وقتله أنه رفض الاستجابة للاملاءات الاسرائيلية، من ثم فان أي تحليل نزيه للمشهد لا ينبغي له أن يتجاهل هذه الحقيقة التي تدل على أن الموقف المقاوم هو جوهر الموضوع. 

وأن اسرائيل في محاولتها القضاء على هذا الموقف من جانب أي طرف فلسطيني لا تتردد في استخدام مختلف أساليب القمع والسحق، والحصار والقتل في مقدمتها.

حكاية الفرص التي ضيعها الفلسطينيون أكذوبة أطلقها الاسرائيليون في عام 2000، حين كان باراك رئيسا للوزراء وقيل وقتذاك أنه قدم الى أبوعمار حين التقاه في كامب ديفيد برعاية من الرئيس كلينتون عرضا يعيد اليه %98 من أراضي الضفة الغربية لكنه رفض وضيع الفرصة التي كانت بين يديه. وقد دأبت بعض الكتابات الاسرائيلية على الترويج لهذه الأكذوبة، التي انطلت على بعض العرب للأسف، فتلقفوها ورددوها بحسن نية أو بسوئها.

شاء ربك أن يصدر بالتزامن مع تلك الكتابات تكذيب قوي للفكرة، في مقالة نشرتها مجلة «لندن ريفيو اوف بوكس» (عدد 4/10) للباحث الأمريكي اليهودي هنري سيجمان الذي يعمل الآن مستشارا للشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية. عرض الكاتب في مقالته كتابين صدرا مؤخرا في اسرائيل لثلاثة من الباحثين المهمين، أولهما كتاب «امبراطورية الصدفة»، لمؤلفه جيرشوم جورنبرج، والثاني عنوانه «أسياد البلاد»، ومؤلفاه هما ايديف روزنتال وعكيف الدار والكتابان يؤكدان على أنه لم يحدث على الاطلاق منذ عام 67 وحتى الآن أن فكرت أي حكومة اسرائيلية في أن تقوم الى جوارها دولة فلسطينية في الضفة وغزة.

وفي رأي المؤلفين أن تمدد المستوطنات في الضفة لم يكن اعتباطيا. 
ولكنه مخطط ومقصود به أمران: أولهما استحالة قيام اي كيان فلسطيني في الضفة، وثانيها أن يصبح نهر الأردن هو الحدود الطبيعية لدولة اسرائيل. 
ورغم أن ذلك هو الموقف الحقيقي للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، الا أنها لم تمانع في الكلام حول الدولة الفلسطينية لعدة سنوات، في الوقت الذي تصادر فيه امكانية قيام تلك الدولة على الأرض، وهذه هي حدود الفرص التي يلام الفلسطينيون على تضييعها.

(4)

فيلم الفتنة ليس جديدا، ولكننا نتابع مشاهده منذ ثلاثة عقود تقريبا. وأزعم أنه مر بأربع مراحل. الأولى تمثلت في ازالة آثار حقبة المد القومي، وتجريح شعاراتها وعناوينها التي تحدثت عن الأمة والوحدة وتحدي قوى الهيمنة واعتبار فلسطين قضية مركزية للعرب. 

في المرحلة الثانية رفعت فيها عناوين تحدثت عن آخر الحروب والسلام كخيار استراتيجي و%99 من الأوراق في يد أمريكا، وما أخذ بالقوة لا سبيل الى استرداده الا بالتفاهمات والمؤتمرات. في المرحلة الثالثة استمر تزيين الحلول السلمية مع السخرية من دعوات الصمود والممانعة، الأمر الذي استصحب هجاء للمقاومة واعتبارها «ارهابا» مستنكرا ومرفوضا ـ الذروة كانت في المرحلة الرابعة التي أعقبت انتصار حزب الله على الجيش الاسرائيلي في عام 2006 وفيها انقسم الصف العربي الى «معتدلين» يعتبرون ايران هي العدو، و«متطرفين» تمسكوا بأن اسرائيل هي العدو. 
وهي ذاتها المرحلة الراهنة التي ظهرت فيها تجليات الدس والتحريض ضد المقاومة، والتآمر عليها.
لا يزال العرض مستمرا. والمقلق والمخيف أن المؤشر يزداد انحناء حينا بعد حين، الأمر الذي لا يطمئننا بحال الى الخاتمة





No comments:

Post a Comment